بحوث  

عيون وادي الرافدين .. العيون السومرية

 

أمل بورتر

mcinfcen@hotmail.com

 الفنون التى وصلتنا من وادي الرافدين تاخذ سمات متميزة واضحة ومختلفة تماما عن فنون اخرى قد تكون معاصرة لها و قريبة منها جغرافيا او حضاريا او حتى البعيدة عنها جغرافيا وحضاريا. اكثر ما وصلنا من هذه الفنون جاء على شكل فخاريات او منحوتات ولقد تطورت هذه الفنون بشكل  طبيعي عضوي تماما كما في حالة الاحياء العضوية التى تستمر بالنمو وولمحاولة  فهمنا لهذه الفنون علينا  فهم واستعياب الرسالة التاريخية والاجتماعية التى تحملها عن الزمن الذي انتجت فيه.

 استوطن وادي الرافدين اقوام مختلفة فالسومريون احتلوا القسم الجنوبي منه ولا يعرف اصلهم بالتحديد اذمازال هذا الاصل مبعث لجدال لم  يوضع حد له لحد الان اما مناطق اعالى الفرات وأواسطه وكذلك اعالي  سهل دجلة فلقد   استوطن من قبل اقوام ساميةوفي الوسط بين السامين في الشمال والسومريين في الجنوب كانت هناك اقوام مختلفة اخرى  والفترة الزمنية لهذا الاختلاط السكانى كانت قبل او في الالف الرابع قبل الميلاد.

 فهذا التباين السكاني  ترك  بصماته الواضحة على فنون وادي الرافدين ولكن هذا لا يعنى انه لم يكن للسومريين التاثير الا قوى والاكثر فعاليةان التاثير السومري شمل اغلب المناطق الممتدة بين دجلة والفرات و يصل  الى سوريا شمالاحتى دلمون (البحرين ) جنوبا وهناك اكتشافات اثرية اتثبت امتداد هذا التأثير الى ابعد من ذلك ولكن نحن بصدد وادي الرافدين فالتنقيبات الاثرية كشفت لنا عن كنوز مدفونة تتحدث كثيرا عن مواضيع متعددة ولكن اغلبها يصعب فهمها وخاصة التى جاءت قبل عصر التاريخ(التدوين) الا ان ما يستدعي الانتباه الاهتمام المشترك بين جميع من انتج الاعمال الفنيةعلى   طريقة تنفيذ العيون بشكل يختلف عن مجمل الجسم.

 فلو تفحصنا بدقة تماثيل تل الصوان والتى تعود الى فترة 6000الاف سنة ق م وهي من الرخام فنجد ان ما يطلق عليه تمثال الالهة الام روعيت النسب بشكل معقول نسبيا الا العيون فقد نفذت بشكل تجريدى  وبمالغة شديدة جدا خارج الحد المألوف اذ ربما تحتل  ثلث الوجه فهذه المبالغة مقصودة فعلا ونجدها ليس   فقط في في تماثيل الالهة الام بل حتى في تماثيل الذكور وبالاضافة الى حجم العيون المبالغ فيه هناك ايضا طريقة  وكيفية تنفيذها فلقد اولاها الفنان اهمية خاصة فهى في اغلب الاوقات ملونة او محفورة وفيها حجر يختلف لونه عن الجسم بياض العين واضح و كذلك البؤبؤ والحاجب والتعبير ايضا يختلف فهناك العيون المدورة او التى تميل الى الاستطالة  او ذات بؤبؤ صغير او كبير ويحاول الفنان تنفيذ الاجفان بشكل اقرب الى لواقع اذ نجد فيها بروزا)

 ولكن ما يثير الاهتمام حقا بالنسية للعيون  والنموذج الامثل لذلك هي الجرة الفخارية من موقع حسونة بداية الالف الخامس قبل الميلادهذه القطعة الاثرية والتى يطلق عليها احيانا (الموناليزا) لها اهمية خاصة في تنفيذ العيون , اذ ان الخزاف عرف قيمة الطين واعطاه الاهمية التى تبرزخاصية هذه المادة وكيفية تطويعها لخدمة عمله الفنى فجعل العين بارزة وفيها خط ملون في الوسط توهم المتلقى بانها اما ان تكون مفتوحة  او تنظر نظرة حالمة مبتسمة فحتى في هذه الجرة الفخارية والمعدة للاستعمال اليومي جاءت فيها العيون لتعبر عن شئ ما مبهم غامض يوحى بالكثير ويتحدث قليلا ,حديثا يبدو لنا لغزا غامضا قد يكون السحر والرهبة اساسه.

 ياتى الفنان السومري وارثا لكل تلك الالغاز والتى لابد انه كان  انذاك يستطيع ان يفكها ويفهما بسهولة فأخذ يزيد من ذلك الغموض وحافظ على المبالغة ولكنه ادخلها ضمن مضمونها المعقول حسب نسبة الجسم والوجه والتى يسير عليها ويراعيها حتى الفنان المعاصر فنجد راس الفتاة من الوركاء والذي يعود الى 3000سنة قبل الميلاد نجد الفنان السومري قد وضف وجود العين بشكل اولوي واعطاه الاهمية القصوي تعبيرا وصنعة ,العيون محفورة بتقنية فنية عالية ولابد انها كانت مطعمة والجفون رقيقة والحاجبين معقودين يسيران من ناحية الى اخرى بخطوط منسابة متوازنة العين في هذا الوجة كما يقولون في الشعر هي (بيت القصيد) لا الفم الدقيق ولا الانف المستقيم ولا الخدود الملساء الناعمة تثير في المتلقى الشعور بالروعة الا العيون فانها نقطة الارتكاز وهي الحاسة الوحيدة  من بين كل حواس  الوجة التى تخاطب المشاهد وتشده ولابد ان المتعبد السومري كان يقضى وقتا طويلا امام هذه العيون.

 ويستمر الفنان السومري بالاستحواذ على حواس المتعبد المتلقى بالتركيز على العيون حتى وهو ينفذ حيواناتة فعيون البقر والجاموس والاسودوالماعز والغزلان كلها تبدو مثيرة وكبيرة ومهمة لا يغفلها الفنان وهو منغمر في تنفيذ عمله بتفاصيله الدقيقة وخاصة في الاختام المنبسطة او الاسطوانية

 ويبقى فنان وادي الرافدين متفاعلا مع اعماله الفنية ويطور تقنيته لتتماشى وتنسجم مع افكاره وخيالاته اللامحدودة فيصور كل شئ حسبما توحي له مخيلته الخصبة مسبغا على انتاجة نوعا من الواقعية المغلفة بالتجريد في احيان كثيرة ولكنه يبقى على اعطاء العيون اهمية لا حدود لها اذا انها مبعث الرهبة ووسيلة حية للاتصال مع عوالم الغيب فقد تتحدث بدون ان تنطق وترهب بدون افعال بل بمجرد النظر فهذا تمثال ابو وزوجته(النصف الاول من الالف الثالث) زوجةآبو رقيقة ناعمة ذات جسم رشيق تنساب عليه الملابس بنعومة وجمال كفها رقيق اذلا تحتاج يدها لاداء اي مجهود مضنى  ولكن عيونها لا زالت تحتل ثلث الوجة مدورة تدعو المتلقى بصراحة ووضوح الى الاستماع اليها والخضوع لها وكذلك الى زوجها الاله ابو اله الخصب والنبات

 لم تكن المبالغة في تنفيذ العيون مقتصرة على تماثيل الالهة ولو انها اقل  شأناعندما ينفذ الفنان عمل لانسان عادي الا انه يوضف تعبير العيون بحيث يخدم المضمون العام ففي شكل رقم رأس امراءة العيون واسعة ولكن الفم ينفرج عن ابتسامة وهنا نفذ العيون بشكل تؤكد تلك الابتسامة وتزيد من فاعليتها وجاذبيتها

 الاهتمام بالعيون لم ياتي عفوا ابدا ولقد لاحظ ذلك كل من نقب واهتم بالاثار  ومما يلفت النظر ما اكتشف في تل براك بما يعرف بمقبرة العيون اذ تم اكتشاف اكثر من ثلاثمائة من التماثيل قسم منا على شكل اقنعة وقسم منها فقط الجزء العلوى من جسم الانسان الراس والكتف  مع العيون الواسعة كلها وجدت على شرفة معبد يعرف الان بمعبد العيون ولقد ناقش العلماء هذه الظاهرة الغريبة واستقر الرائ على اعتبار ان لهذه العيون بعدا مهما في العبادة

 ولربما ربطت هذه العيون بين القوة السحرية للعيون والاصابة بالحسد وقد تكون تمائم تحمى من الشر الا ان (ماكس مالاوان)(زوج اجاثا كريستى التى عملت معه في العراق) يعتقد انها رموزا لأله معين او ربما عدة الهة ولها صلة وثيقة بالالهة الام او قد تصورجموع المتعبدين الى الالهة الام وعيونهم شاخصة مفتوحة تتطلع بورع وخشوع وكما هو معروف نحن نقدم تفسيراتنا التى تنطلق حسب مفاهيمنا العصرية بعد ان ارتكز الفكر الدينى واخذ شكل السلطة المطلقة فربما السومري كان ينظر الى الدين كنوع من الشراكة بين الالهة والانسان لذا منح الالهة شكل البشر ومنح البشر عيون الالهة.

 اخذ عطاء الفنان السومري يزداد تعقيدا وقربا من الواقع والى حد ما زالت العفوية التجريدية - السوريالية من كثير من الاعمال الفنية المنتجة والاسباب كثيرة فلو نظرنا الى تمثال دودو الكاتب 2400ق م والى كوديا حاكم لكش(2144ق م ) وتمثال الالهة (باو نهاية الالف الثالث ق م ) ربةالحقول والبساتين لوجدنا تقاربا شديدا بين هيئة الموظف والحاكم *الذي غالبا ما ياخذ صلاحية الحكم من الآلهة *و الألهة (باو)  وضعية الجسم والجلسة واحدة والتفاصيل قريبة متشابهة والعيون مهمة جدا والفرق ان تمثال الألهة(باو) ربما قد طعمت العيون باحجار كريمة .

  ويسير بنا التاريخ لنصل الى الفترة الاكدية البابلية ويطل علينا قناع-ثمتال سرجون الاكدي او ربما حفيده نرام سن ويستحوذ هذا العمل على كل المشاعر لن احاول او اجرؤ على وصف هذا التمثال فما يقوله عن نفسه ابرع من اي قلم قد يكتب او كتب عنه ولكننى اسمح لنفسى بان اسرح في عيون هذا التمثال رغم الكسور والتخريب الذي اصابها , الحاجب منفذ بكثير من العناية والدقة ويذكر المشاهد بعمله البايولجى الذي اسندته الطبيعة اليه وهو حماية العيون فنجد الحاجب هنا يرعى ويحمى العيون وكانة ملتف حولها يحتضنها من الاذى  وما بقى من العيون يوحى لنا بالشموخ والعظمة المفعمة بالرقة والحيوية ولابد ان العيون كانت مطعمة والانف دقيق ورقيق يعزز من اهمية العين ولا ينافسها وكذلك الفم والشارب الذي جاء مكملا لكل هذا الجلال والهيبة.

 في هذا العصر قد تطورت البشرية وقطعت شوطا بعيدا والحياة اصبح لها متطلباتها المعقدة وانعكس ذلك سلبا واحيانا ايجابا على العمل الفنى ولكن بقى التأثير السومري الواضح بكل عفويته ونقائه والمحافظة على التقاليد السومرية كانت اهم ما يسعى اليه مجتمع النخبة في الاجيال التى تلته وما كتابة التاريخ وتدوين الاحاث وتسجيل الماضي من قبل  بابل واشور الا علامة اكيدة على هذه الاهمية.

 ياخذ الفن بعدا اخر في الفترة الاشورية التى وضحت في هذه الفترة سيطرة القوة العسكرية وسيطرة الحاكم الدنيوي سيطرة تامة مطلقة واخذ الفنان ينفذ ما تطلبه منه الدولة لترويج مفاهيمها وتدعيم سياستها وامتاز العمل الفنى بصبغة(الانتاج العام) ولكن الفنان قد تطور حسه ووعيه لبيئته وللمادة المستخدمة وكذلك لموضوعاته واخذ يقولب اعماله وفقا لمتطلبات جديدة مراعيا فيها ما يطلبه منه اصحاب السلطة ولكنه لم يستطيع ان يطوع العيون وينفذها بشكل بعيد عن موروثه القديم ورغم صبغة اعماله بالشمولية والتشابهة الا ان العيون الاشورية بقيت عيونا سومرية في الجوهر واحتلت مكانة اولية في التعبير وخير مثال على ذلك (وجه الفتاة من نمرود او موناليزا نمرود) وهذا ما تعرف به عالميا فرغم ان العيون اخذت حجمها الطبيعى ومكانتها الواقعية في مضمون الوجه والتشريح الا انها ما زالت تشد الناظر اليها رغم الابتسامة الجميلة على الشفاه فتلك الابتسامة لم تستطيع ان تسحب الناظر اليها فهذه العيون تتحدث بكبرياء وتحدى تنظر الى المشاهد في عينية ولا تحيد النظر تواجهه بصراحة وقوة  حميمية ولكنها تخفف تلك القوة بابتسامة رقيقة صميمة  وتعود لتذكرنا بتماثيل الالهة الام .     

 

 

 

 

 

 

 

 

Google


    في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
  info@bentalrafedain.com