مقالات

كيف نعيد لأطفال العراق هواتفهم النقالة؟

د. حيدر الساعدي

 iraqiaked@yahoo.com

 

عادت صغيرتي الحلوة من مدرستها اليوم حزينة وكئيبة على غير عادتها . احطتها بذراعيَ وقبلتها بين عينيها وسالتها: ماذا حدث ياحبيبة ابوك؟ لمَ هذا الحزن؟

 قالت : اليوم كانت معلمتنا تحدثنا عن حقوق الطفل ورعايته وواجب الاهل والمجتمع تجاهه فتذكرت أولاد أعمامي وأخوالي واطفال العراق وحالهم هناك وانا أرى الإنفجارات والرعب في العراق كل يوم في الفضائيات التي تتسابق إلى نقلها وعلامات الفرح في عيون المذيعين كلما كان عدد الشهداء أكثر، ولكن يا أبي... لماذا يقولون قتلى! أليسَ هم شهداء؟

 مسحت تلك القطرات التي نزلت من عينيها وقلت لها تلك الكلمة التي تعودنا أن نقولها عندما نشعر بالضعف وفقدان الحول والقوة " الله كريم " ثم كررت كي لا اكون كافرا " ونعم بالله" .

 ذَهبت هيَ إ لى غرفتها وتركتني وحدي ابحث عن مَن يطفيء النار التي اشتعلت في ضميري ووجداني وكل حواسي، جلست على كرسي قرب النافذة انظر الى البعيد وغرقت في الذكريات:

 - في الصباح الباكر دخل معلم الصف ألخامس ألإبتدائي باء، حاملا عصاه ألتي لاتفارقه أبدا" حتى أني رأيته مرة في السوق وتعجبت لأنها لم تكن معه وأخبرت أصدقائي أللذين تعجبوا لدرجة عدم التصديق, فالعصا كانت جزء مكمل له ولشخصيته السادية"، دخل الى الصف كعادتهه متجهم الوجه،غاضب، فتحَ فمه وصغرن عيناه وصرخ بنا صرخة مرعبة جعلتنا لانجرؤ حتى على ألتنفس, وبلا مقدمات قال : " إفتحوا إيديكم ", وبدأ بضربنا واحدا بعد الآخر, تعالى البكاء وتحول الصف إلى ساحة عويل ونحيب, ومن ثم قال : " على كل طالب ان يفتح كتاب القراءة والنصوص ويبدأ الطلاب القراءة بالتتابع", و أمرَ أطول ألطلاب وأضخمهم بأن يكون مراقبا ويسجل إسم كل من يتحرك أو يتحدث، وذهب هو إلى حيث يعلم ألله وعادَ في نهاية ألدرس وضرب ألطلاب أللذين سجلت أسمائهم وكنت أنا كالعادة في بداية ألقائمة بالرغم من أني كنت ألأول على صفي في درجاتي ولكنها لم تكن تشفع لي . ولايتصور أي منصف حال الطالب الذي يضرب مرتين في ساعة الصباح الاولى.

 هذه الحادثة هي نموذج لما كان يحدث في مدارس العراق قبل حرب الخليج الثانية أو "أم المعارك – عاصفة الصحراء، سمها ماشئت"، تلك المدارس المرعبة التي تشبه إلى حد كبير ألمعتقلات أو معسكرات ألجيش في أحسن ألأحوال . قد يعترض ألبعض ويقول " لو لا قساوتهم ماكنا لنتعلم "، هذا الكلام وغيره هو ماحاول ويحاول عبيد الدكتاتورية والتسلط أن يقنعونا به ولكنه أبعد ما يكون عن الصواب وألإنصاف فتلك القسوة اللعينة لم تخلف في نفوسنا سوى ذكريات الالم والامراض النفسية رغم مضي اعوام طويلة عليها ورغم ما مرَ بنا من حروب وكوارث و لافرق في المعاناة بين من كان متفوق دراسيا او لا, فالكل يحمل في داخله كره شديد لها ( ومن طرائف شقاواتي الطفولية اني بعد إكمالي مرحلة الدراسة الابتدائية " كنت ألأول على صفي و ألثاني على المدرسة لأن إبن المعلم هو ألأول كالعادة "، توجهت للمدرسة في بداية العام الجديد ورميت مارميت من ألحجارة على المدرسة انتقاما لل" البسطات او الكتلات اليومية على يد مربين الاجيال "، مدير المدرسة التكريتي إتصل بالشرطة اللذين القوا القبض عليَ ولكن والحمد لله اسرع الوالد رحمه الله الذي كان يعرف ضابط المركز فتوسط لإطلاق سراحي بعد أن وقع على تعهد بعدم وصولي الى باب المدرسة ألإبتدائية مرة أخرى" ولم أصلها فعلا بعد ذلك إلا أليوم في الذكريات" ) .

 - في سنين الحصار" الذي كان حصارا على الفقراء واللذين يخافون الله فقط بالطبع"، أصبحت رواتب المعلمين لاتكفي لإطعام عوائلهم ليوم واحد، لذلك تغير ألإسلوب وأصبح الشعار المرفوع في المدارس، " مَن لا يدفع لا ينجح"، وضاعت جهود وآمال الكثيريين من ألطلبة لأنهم كانوا فقراء ولاشيء عند أهلهم ليدفعوه فهم بالكاد يوفرون لقمة العيش, فاضطر الكثيرين من المغضوب عليهم لترك مقاعد الدراسة والعمل ببيع اكياس النايلون او في بيع المواد المستعملة وغيرها من الحرف البائسة .

 - أخيرا تحقق الحلم الذي طالما انتظرناه، سقط الطاغية،أشرقت شمس جديدة، بدأ عالم جديد، إنتهى عالم ألدكتاتورية وألتسلط, لارعب بعد أليوم، لا صدام ولا بعث ولا عوجة ولا تكريت و لا " عجل يابة", يالله " صبرنا وعوض الله – علينا إشما صبرنا" .

 تغيرت المدارس وما عاد هناك تجنيد يرعب الطلاب ولم يعد المعلم مخيفا وراتبه تحسن مما جعل الكثيريين منهم تعف انفسهم عن ابتزاز الطلبة، فعلا انقلب كل شيء رأسا على عقب .

 واحدة من الطرائف التي حدثت في خضم الاحداث المتسارعة وكثرة الاشاعات ( ظهرت اشاعة قوية ملأت الشارع واوساط الطلبة بان الامريكان سيوزعون حقائب مدرسية ومعها هواتف نقالة، وسهر الكثير من المساكين يحلمون بالهاتف الذي رأوه فقط في الافلام الامريكية ولربما بعض الافلام المصرية عند الباشوات لانه كان كألإنترنت خطر جدا على الامن الوطني والقومي في زمن قيادة "العربان الذين جاءوا من خلف البعران يحملون معهم ثقافة العوجة و ليصبحوا قادة ويسكنون القصور و شاف ماشاف الخ "، كانت خيبة ألأمل كبيرة عندما جاءت الحقائب لكن بلا هواتف ولا هم يحزنون، الاشاعة المضادة كالعادة كانت جاهزة وهي : " الهواتف سرقوهن في الوزارة " ) .

 - في مساء يوم جميل جلس " حسوني " و" إرعيد " على الرصيف المطل على الشارع الرئيسي في منطقتهم الشعبية يتاملون الناس وهي تتبضع وتشتري السلع الكهربائية بعد أن حرموا منها طوال سنوات الحصار وسيارات "المنافيست" تصول وتجول وبالاتجاه الذي يرغبه السائق، نظر حسوني الى البعيد ثم بدأ الحديث قائلا:

 - - ابي يقول اننا سنسافر في الصيف الى عمي في بريطانيا، هو هناك منذ خمس وعشرين عاما ولم نشاهده منذ ان سافر، كان شيوعيا حكمه البعثيين بالإعدام فهرب بجلده من العراق, ابي يقول انه ربما سيتركني اعيش عند عمي إذا أعجبني المكان وأكمل دراستي هناك، نعم فالسفر لم يعد ممنوع والبلدان الاجنبية ستفتح ابوابها لنا مَرة اخرى . آه كم مشتاق لعمي، ملاحظة :" حسين او حسوني عمره 14 سنة"

- أما إرعيد او رعد فقال:

 - - نحن أيضا سنزور خالي في المانيا, ملاحظة : " إرعيد له خال واحد خريج كلية العلوم وحاصل على شهادة الماجستير، يعيش في العمارة ويعمل في بيع " الملابس المستعملة " وحال الضيم حالة، كان مسجون خمس سنوات بلا محاكمة ومن دون سبب سوى أن له أخ رفض ألإلتحاق بالجيش فاعدموه بباب البيت وأخذوا من أهله ثمن الرصاصات وله إبن عَم شارك في ألإنتفاضة ألشعبانية وبعدها التحق للعمل مع المعارضة في ألأهوار" .

 وهكذا بدأت احلام الصغار تكبر وتتوهج، ولمَ لا يحلمون، لم يعد هناك " عاش القائد في المدارس " ولا " تبرعات لبناء المدرسة تذهب لجيوب فلان وفلان " ولا "جيش القدس او اشبال إ بطيحان" . إنها الحرية ياناس التي لم نشم رائحتها من قبل قد جاء بها من كنا نعتقد انهم ألأعداء، جاءت مع العلوج وماكنا لنتذوقها لولا عبور هولاكو ألأسوار, تلك ألأسوار التي كانوا يصورون لنا انها منيعة على الغزاة وهولاكو سيسحق قبل أن يعبرها، وكان ذلك الصباح الذي اعلن فيه هروبهم الجماعي المخزي لهم ولكل من لا زال يدافع عنهم.

 - ولكن! في غمرة ألأفراح بالحرية والخلاص حدث ما لم يكن ابدا بالحسبان!!!...

 - "إنفجرت سيارة مفخخة قرب المدرسة وقتل من قتل وجرح من جرح .

 - - حسوني فقد ساقيه نتيجة ألإنفجار وبترت معهن كل احلامه البريئة.

 - - إرعيد استشهد والده الذي يعمل شرطي عندما كان ينظم توزيع البنزين على المواطنين فاطلق عليه احد الإرهابيين النار وقتله، ولم يحصلوا على الراتب التقاعدي، فإضطرت امه الى اخذ أولادها السبعة والسفر الى العمارة كي تقيم عند اخيها، فلا طاقة لها على دفع الايجارأو حتى إطعام أطفالها ".

 - سرقت احلام الصغار البريئة بطريقة لم نفهمها كما لم نفهم كيف سرقت الهواتف النقالة والله اعلم.

 - سؤالنا هو :

 - - من سيزرع البسمة في وجوه أطفالنا؟ - من يشعرهم بالامان؟ - من يضمن لهم مستقبلهم وأحلامهم البريئة؟

 - ألجواب :

 - نحن بالتأكيد من يزرع البسمة ويشعرهم بالأمان إذا عملنا بإخلاص لحماية العراق من خطر الارهاب وعملنا على الاسراع بإعادة بناءه .

 - ولكن! وآه من هذه ال( لكن) .

 - ... ( إلى أن نتكاتف ونتجاوز حروبناالغبية في ما بيننا ونوجه جهودنا لضرب الارهاب وإعادة إعمار البلاد، ستبتر ارجل ألآلاف مثل "حسوني"، ويتيتم ألآلاف مثل "إرعيد" ) .

 

 

 

 

 

 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com