مقالات

قلوب باردة وأكاليل: بورتريه لإرنست ويكلي

بقلم: جون وورثن ـ مدير معهد بحوث د. هـ. لورنس

 john.worthen@nottingham.ac.uk

ترجمة: صالح الرزوق

salehrazzouk@hotmail.com

 

إذا صدقت النبوءة السيكلوجية أن الليبيدو هو المحرض الأول للإبداع. وأن الرواية بشكل خاص تعيد سرد وقائع عائلية من الذاكرة. يمكن لنا أن نعتقد أن د. هـ. لورنس عاش هاتين التجربتين، المتخيلة والواقعية. فقد تورط هو بذاته في حكاية حب عاصف وبائس مع زوجة أستاذه إرنست ويكلي. هذا الحب الحرام، إن صحت التسمية، كان موضوع عشيق السيدة تشاترلي، آخر نص له وأول كتاب بقلمه يتحفظ عليه القضاء. كان لورنس فضائحيا في حياته الشخصية، ورجيما في كتاباته. لقد استطاع أن يحقق السلام المفقود أبدا بين زمن النص والوقائع الموضوعية، الأمر الذي وضع الدال في موقع المدلول والمعنى.و في هذه المقتطفات (وهي الفقرة السادسة) من محاضرة ألقاها البروفيسور جون وورثن مدير معهد بحوث د. هـ. لورنس تعقيب على كلا الطرفين: الأدب والحياة. ما نكتب على الورق ولماذا كتبناه، من خلال إعادة تصوير لعلاقة إرنست ويكلي بلورنس. عاشقان سقطا في فخ امرأة واحدة.

 

***

 

إن صورة إرنست ويكلي التي وصلت إلينا، بالطبع، كانت متأثرة إلى حد كبير بمقارنات مستمرة ودائمة مع فون ريشثوفين: تألقهم مقابل ناره الكامدة: عطالته مقابل نشاطهم. وإن التدقيق في الصورة التي نعزوها إليهم لا بد وأن يتبعها تدقيق في الفكرة التي أخذناها عنه.

لقد كان إرنست ويكلي بعيدا عن الغباوة وعن الهوس بالكتب المملة، تلك صفات خيالية أبدعها كتاب سيرة لورنس وسواهم من النقاد. على سبيل المثال قال كيث ساغار ذات مرة إنه (لايهتم إلا بالكتب)، ونعته جيفري مايرز بأنه (مقموع ويخلو من الطرافة... تقليدي، فظ وإلى حد ما يدعو إلى السخرية)، وأكدت روزي جاكسون أن (حياته كابن مجتهد ثم كرجل مرموق صنعت منه صاحبا ممقوتا). وذكر ألدوس هكسلي في أحد المواضع أنه (على الأرجح هو أبلد أستاذ مر على غرب نصف العالم) " وهذه عبارة اقتبسها وأيدها مايرز ". وقد قدم لنا هكسلي أيضا بشخصية جون بينيس، في روايته ضرير في غزة عام 1934، عجوزا متفقها باللغة يتمتع بقدر من الحماقة والتعلق بالكتب، دأب على ندب زوجة شابة ضاعت منه. وفي ذلك إشارة إلى أشياء ذكرتها له فريدا: لقد كانت تستمتع بإخبار الآخرين لم افترقت عن زوجها الأول.

لكن إرنست ويكلي فاجأ معظم الناس بصورته المختلفة: اللبق، حاضر البديهة والذي يتمتع بطاقات خلاقة. وفي شبابه كان (يخطو إلى أية حجرة كنسمة هواء منعش) على حد قول زملائه. إنه في الواقع، وبالتأكيد لم يكن مقموعا ولا بليدا. لقد ولد عام 1865، وفي عامه السابع عشر، شغل منصب أستاذ مدرسة، وتابع تحصيله الدراسي عن طريق المراسلة. أما شقيقه الأصغر مونتاغيو، عالم رياضيات له آفاق على المستقبل، لقي حتفه في يفاعته على نحو تراجيدي، وهو في عامه الثامن عشر، حصل ذلك سنة 1880. ومثل د. هـ. لورنس بعد موت شقيقه الأكبر الناجح في وقت مبكر من رحلة العمر، ألقى إرنست على عاتقه مهمة إنجاح العائلة. وقد حقق في هذا المضمار قدرا لا يستهان به. وحينما بلغ ما نسميه الآن مرحلة النضج في فترة التلمذة ـ أمر نادر الحدوث جدا في تلك الأيام ـ حصل على درجة ماجستير من جامعة لندن عام 1892، وحاز على منحة دراسية إلى كلية ترينيتي في كامبريدج. وقد التحق بها عام 1893، حينما كان له 28 عاما. وربح ميدالية زرقاء بالمناصفة في رياضة الهوكي، ونجح في لعب الكريكيت لعدة سنوات، وعلاوة على ذلك وصل إلى المركز الأول في ترينيتي عام 1896، مع امتياز في كل من الفرنسية والألمانية. وما أن أصبح في عامه الواحد والثلاثين، حتى اكتسب خبرة ألسنية مكنته من الحديث والكتابة دون أخطاء بالألمانية والفرنسية، مع ثقافة تفوق المعدل باللغة الإنكليزية وفقه اللغة.

إن البلاهة المقيتة التي ورثها عن أبيه (غالبا في السلوك) قد تمت معادلتها بما حاز عليه من أمه: طموح وثاب مبهر وشجاعة وذكاء. بكل المقاييس كان ويكلي فطنا وطموحا، وتهكميا إلى حد بعيد، ورجلا مرحا حقا، وقد ستر طاقاته الخلاقة في المعرفة وفي التفهم وفي الإصرار على النجاح، خلف قناع خداع من المرونة الشبابية. وقد رشحته الدرجة الثانية التي حصل عليها في كامبريدج إلى سنة في السوربون، وأعقب ذلك ستة شهور كمحاضر في جامعة فرايبورغ ما بين أيار وتشرين الثاني من عام 1897. وهنا للمرة الثانية رسم أمام رفاقه وطلابه الصورة الأكثر بهاء (وكان أسلوبه في لعب البلياردو هو االحائز على أعظم قدر من الثناء) ؛ وتوج ذلك النجاح أخيرا بحصوله على وظيفة أستاذ في اللغات الحديثة بجامعة نوتنغهام، وهو منصبه ابتداء من عام 1898. لقد كان له آنذاك 33 عاما من العمر، وكرجل ما زال في مقتبل العمر، وبلا مؤهلات تقليدية وحساب مصرفي، يعتبر ذلك أمرا خارقا للعادة، وكما يقول مايرز: هو إنجاز بطولي.

إن هذه الصورة المريرة قد رسمها له جاي إي سايمس، رئيس الجامعة يومذاك، في إحدى رسائله. قال سايمس إن ويكلي (لم يكن موثوقا.. لكنه يترك عندك انطباعا بالصعود من الحضيض).

لقد أثر في أجيال من الطلبة، ووصفه أحدهم (بثناء صادق) لمزاياه في العمل وفي الحياة العامة، بقوله: إنه الأستاذ المفضل... إنه لطيف المعشر حقا. أنيق جدا. يميل في كرسيه إلى الخلف ويشير بأصبعه إلى السبورة، عوضا عن أن يقف على قدميه. وكان ينادينا يا " شباب ". كان تهكميا بالطبع.

و هكذا كان د. هـ. لورنس الشاب، حين انتظم في محاضرات لتعلم اللغة الفرنسية. فقد اتبع دورة تدريبية للمعلمين في كلية نوتنغهام الجامعية. ولكن، ما من شك لم يكن لديه إلمام بمعنى جنتلمان، لقد صعد هو بدوره من الحضيض.

إن الطريقة التي تعامل بها كتاب سيرة لورنس مع ويكلي لم يكن ينقصها الخزي والتجريح: كل واحد فيهم ينسخ من سبقه. أضف إلى ذلك أن صورتهم الأسطورية ـ الخرافة ـ تعود مرجعيتها إلى فريدا ولورنس. كان ويكلي لغويا بارعا لم تخطر له في ذهن فكرة تأليف كتب، إلى أن حثته زوجته فريدا على ذلك. ولكن حتى حين كتبها لم تغب عنه روح الباحث المتعلم الدؤوب ولا البداهة. فعل ذلك بما أمكن من طاقات وملاحظات وإبداع. وأسفر ذلك عن موهبة حقيقية في تفسير الأصول والفقه. لقد أسعفته نباهته وقدرته على المحاورة إلى فترة متقدمة من العمر. وإن حفيده يذكر له (تحويل حماقة إلى تسلية لنا جميعا) في أواخر الأربعينيات.

و على غرار غيره من الأكاديميين، أيضا، كان يتمتع بالقدرة على التمثيل. عمه شارلز ويكلي (الذي غير اسمه إلى ويتليه)، كان كوميديا محترفا في الحقبة المتوسطة من القرن التاسع عشر، وابن عمه إدوارد ويكلي كان ممثلا في مسرح باري جاكسون لعدة سنوات. ولكن كانت هناك خيوط تاريخية في شخصية إرنست ويكلي تم التركيز عليها بأسوأ النوايا حينما اشتكى (وهو في قمة اليأس بعد فرار فريدا) من أثر ذلك على والديه. (إنه أصعب من الموت بعشرة آلاف مرة): (أخشى أن يتسبب بمصرعهم، لو لم يأخذوا حظهم المكتوب من الحياة). وأصر كذلك (إن رؤيتها مرة ثانية هو موت وشيك. سوف أنتحر وأقتل أولادي أيضا. إنه مدعاة للذعر أن تكون منيتك بعيدة، ولكن مكتوب عليك أن تعيش لتحمي حياة غيرك). وقد كتب إلى فريدا يقول (هل تدفعينني إلى الانتحار لتسهلي عليك الأمور?). وذكر ـ وهو يخشى أن لا توافق على إجراءات مسالمة ـ إن الطلاق (قد يكلفه منصبه، هنا، وفي أذيال ذلك تضرب المجاعة الأولاد). هذه الخيوط الإيمائية، الشخصانية، التراجيدية بتكويناتها الفكرية كانت تذر بقرنها في عدة مواضع حيث لا تتوقع. على سبيل المثال في عام 1930 كانت ابنته باربرا (التي محضها الحب الشديد) على فراش المرض من غير أمل في أعقاب انهيار عصبي، وحينما بلغته أنباء عن تحسنها (مع أخبار عن خطبة ابنه مونتي)، قال بلهجة لا ينقصها الإشفاق على الذات والامتنان المأساوي: لقد منحتني أنباء باربي القدرة على الحياة. قبل شهر كنت أفكر بوضع حد للأمور، ولكن الآن ربما أفكر بعدة سنوات بعد منتصف العمر أقضيها بمسرة وأراقب الحبور في قلوب أولادي.

على الفور انتقدت فريدا هذا السلوك، ومع ذلك كانت هي النصف الآخر لدماثته وحسن مظهره. في منتصف العشرينيات، توصل إرنست ويكلي إلى مصالحة مع مصيبة عام 1912، ولكن لا بد لنا من التطرق إلى اعتقاد ابنته باربرا وحفيده إيان أن زوبعة الطلاق العلني العاصف عام 1914 (أذاعته نشرات الأخبار العالمية وجريدة غارديان نوتنغهامشر) كلفه كرسي أستاذ في أوكسفورد وكامبريدج، وكان هذا حقا له بموجب إنجازاته (ولكن يجب أن لا ننسى أن سجله قد لا يؤهله إلى ذلك، على حد قول سايمس). في أية حال، لم يكن، والأمر كذلك، مكسورا، إنما أقرب إلى الإحساس بسخرية الأقدار فحسب.

و لكن لا أحد يعزو في نهاية الأمر، إلى امرئ بوأته العامة ميدالية البطولة، صفات تمجيدية. إن الذي أثر في نفسية ويكلي (وأرجو صادقا أنه لم يأخذ بذلك علما) هو لورنس. لقد كان قلم لورنس اللاذع هو الذي كتب نعوته علنا، ولا سيما في روايته القصيرة العذراء والغجري، وهذا أمر سوف أعقب عليه لاحقا.

 

ــــــــــــــــــــــــ

* البروفيسور جون وورثن: متخصص بلورنس. عمل أستاذ أدب في جامعة سوانزي، ثم مديرا لمعهد بحوث د. هـ. لورنس، وهو الآن متقاعد، ومتفرغ للكتابة. من مؤلفاته: التغريب في قصص د. هـ. لورنس المبكرة (1985) منشور في مجلة دراسات في النهضة والحداثة، بيوغرافيا كامبريدج عن د.هـ. لورنس (1998، 3 مجلدات) مطبوعات جامعة كامبريدج، د.هـ. لورنس: وقائع حياة اللامنتمي (2005، 517 ص) بنغوين، وحقق أيضا من بين مؤلفات لورنس: الفتاة الشريدة (1981)، دراسات كلاسيكية في الأدب الأمريكي (2004)، وسواها.....

 * هذه الترجمة تعتمد على نسخة للمحاضرة مطبوعة بالآلة الكاتبة، وقد حصلت عليها من أستاذي W J Whittington، وعنوانها الأصلي:

Cold Hearts And coronets. by: John Worthen, An Inaugural Lecture delivered in the Portland building, University Of Nottingham , on 31 October 1994.

 

 

 

 

 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com