مقالات

رسالة الى صديقتي المقتولة

صبيحة شبر

sabiha_kadhum@hotmail.com

هذه رسالتي الأخيرة لك، سبقتها رسائل عديدة،أبثك لوا عج قلبي، وتحدثينني عن متاعبك الآخذة بازدياد وتفاقم، رأيتك آخر مرة، وكنت كالعادة دائما، تضحكين على المصاعب، وتهزئين بالكوارث، تقولين عندما نستفسر متعجبين : انك تطردين الهموم والأحزان بضحكك المستمر، وابتسامتك المتواصلة، وان الأحزان كلها من الضعف والضالة، حيث لا تستطيع الصبر، والمكوث أمام إصرارك، فتولي مذعورة ... مندثرة .... تهرب من دربك .... بعد أن أدركت .... أنه من المستحيل، أن تئد الضحكة المتواصلة، الهازئة بالمصاعب، وأن تقطع الابتسامة الجميلة التي تعلو محياك وتزينك

 رأيتك آخر مرة وأنت شبه وحيدة، في بيتك القديم المتهدم الجدران، الواطيء السقف، المشقق، المقلوع النوافذ، لقد مضوا جميعا، وتركوك صلبة، لا تنال منها المصاعب، فأنت مازلت تضحكين ... تلك الضحكة العالية، المتواصلة، ينظر إليك الجميع، باستغراب، ثم بعد لحظة، يقتدون بك، وتنتقل إليهم العدوى، تجدينهم يضحكون، بتواصل، وبدون انقطاع، حنى تنتهي أنت من ضحكتك الجميلة

 أعدموا زوجك، وأبنك الكبير، فقدت ابنتك الوحيدة، بعد ان صارت ملتاعة، محطمة القلب، مكلومة الفؤاد، ضربوا زوجها أما م عينيها ذلك الضرب المبرح، وبلا أي مبرر معقول، بقيت وحيدة، غريبة، في ذلك المنزل الكبير والمتهدم، تمنين النفس، أن يعود ابنك المتبقي لك في هذه الحياة، الغريبة بحوادثها العصية على الفهم والتفسير، عند سقوط النظام الدكتاتوري الأليم، صفقت بسعادة، للحدث العظيم، يمكنك الآن أن تكحلي العين، برؤية ابنك العزيز، ذهبت إلى كل السجون والمعتقلات التي تعرفينها والتي علمت بشأنها بعد السقوط، على الأرض، وتحتها، تهرأت قدماك، وأنت تبحثين وتبحثين، ثم تطلقين تلك الضحكة المجلجلة التي تثير الاستغراب في البداية، ثم لا تلبث الضحكات أن تنطلق من الأفواه، بإصرار غريب، انتظرت أن يعود ابنك الوحيد ن وان تلتئم الشمل أخيرا في أسرة بقي من أفرادها اثنان، بعد أن طالت يد الظالمين أغلب أفرادها، طال بك الانتظار، تورمت ساقاك، ولم تعودا بقادرتين على حمل جسدك الآخذ بالنحول، يوما بعد يوم، يأتيك النبأ بأن ابنك قد أبيد مع الآخرين، وان حكما بالإعدام قد صدر بحقه، دون ان تعلمي او يبلغوك، وإنهم نفذوا الحكم بسرعة، وأنت هنا في بيتك المتهدم، تمنين النفس، ان تري ابنك قريبا، بعد ان يطلق سراحه، لم تفقدي اليقين مع كل أنواع البشاعة التي صادفتها، وجميع فنون القسوة التي تعرضت إليها، مع أبنائك وزوجك ن وأفراد عائلتك، حين سمعت بالمصاب الأليم، هرعت الى مساعدتك، عل كلماتي القليلة تخفف بعض معاناتك، تراكمت عليك أنواع من الحزن، ترمل وثكل ... وفقدان الأحبة، يصيبك الوجوم في البداية، وكأنك فوجئت برؤيتي، فانا مثلك تماما، وكنت بعيدة عنك، فلم تتوقعي رؤيتي بعد هذه السنين الطوال، فانطلقت ضحكاتك المألوفة بإصرار، فلم أجد نفسي إلا وأنا أشاركك الضحك المستمر الطويل أنا، من كان يظن أنني نسيت كيف أضحك، وفقدت القدرة على الابتسام، أحذو حذوك، وأضحك ,أضحك مما يثير استغراب الزائرات اللاتي يأخذن بضحك متواصل، تتقطع معه الأنفاس .

 تبادلنا حديث الذكريات، كنا نقرأ معا، ونمشي المسافات الطويلة، ونحن نغني أغاني فيروز وعبد الوهاب، مع الفارق الكبير بين الاثنين،طالما حفظنا الأغاني،كما نحفظ القصائد، والآن نسينا كل ما حفظناه، وكأنه لم يمر على فكرن..،

أخبرتني أنك لم تعودي تقرئين بذلك النهم المعهود، فقد أنهكتك الأعمال،أعمال خارج المنزل، وأعباء داخله، ترهق الجبال، ولكنك لست جبلا وإنما امرأة لم يكن الزوج بقربها، عشت أرملة على الدوام، تواصلين العمل بعد فقدانك للأحبة

تكثرين من الأعمال بعد استفحال الغلاء، وزالت كل الأمنيات بالحصول على لقمة لذيذة، وشراب هنيء..، أخبرتني أنك وحيدة، غريبة، تطل عليك أحيانا إحدى الجارات والتي هي مثلك، قد فقدت الأحبة، الواحد بعد الآخر، ويبس منها القلب، ونشف الدم، وجفت الدموع، أخبرتني أنك تشتاقين إلى الأحباب الذين رحلوا، وتركوك وحيدة، وأنك تحلمين أحيانا بأنهم يزورونك، ويبادلونك الحديث، سائلين عن أحوالك، مطمئنين على صحتك.... غادرتك وأنا على يقين أنك بخير، وان الأحزان التي مررت بها لم تعد قادرة على هزيمة القوة الكامنة في أعماقك..، تنيت أن أكون مثلك، أتحلى بنفس التفاؤل، وتلك القدرة الكبيرة على انتزاع الضحكة من بين براثن الألم

 وأنا جالسة في منزلي في الرباط، أشاهد إحدى الفضائيات، رأيت أمام عيني، مشهدا لتفجير سوق شعبي، بسيارة مفخخة، رأيت الضحايا المقتولين، ينقلون، كنت أنت بعينك، بعباءتك السوداء السميكة، ووشاحك الثقيل، ترقدين بسلام،لا أحد بجانبك، فقدت الجميع ولم تتمكني من توديعهم، ولم تعثري على قبور لهم فقد لايكون لهم قبور، وها أنت تقتلين، بايد غادرة، فمن سيقوم بما يلزمك من دفن وبكاء، وانزال داخل القبر، قد تشبهين أحبابك الذين رحلوا في أنك لاتحصلين على القبر فيضم جثمانك.... أمعن النظر اليك.. لان الكاميرا تتوقف عندك طويل.. فأرى طيف ابتسامة، تلوح على وجهك، لقد استطاعوا أن يقمعوا تلك الضحكة المجلجلة، كما نجحوا في ان يفقدوني، صديقتي الوحيدة

 

 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com