مقالات

ثقافة إقصاء الانثى .. ثقافة اللاحب!

نزار جاف

nezarjaff@gmail.com

يرتبط النشاط الثقافي والإبداعي للإنسان عبر التأريخ، بجانبين مهمين يرتبطان ببعضهما إرتباطا جدليا وهما الإستقرار والامن. ولن يكون أبدا في وسع الإنسان إطلاق ملكاته الابداعية وطرح الرؤى الجمالية للواقع من دون أن يشعر بإنه في دائرة محاطة بالثبات ومشرئبة بالإطمئنان كما يشرح المفكر والمؤرخ"ويل ديورانت" ذلك الامر بإسهاب في موسوعته(قصة الحضارة). غير أن"أريك فروم" يضيف شرطا آخرا للإبداع الإنساني وهو الحب، إذ يقول:(يجب "على الإنسان"أن يرسم علاقته بالاخرين من خلال الحب، إن الإنسان إذا لم يوجد هنك من حب في قلبه، فإنه حتى لو إمتلك زمام كل القدرات والعلوم، فإنه سوف لا يغدو كثر من قشرة ذات محتوى فارغ.). ويستطرد فروم بنفس السياق قائلا: (يجب أن يميز الجيدمن الردئ، يجب أن يتعلم الإصغاء لنداء ضميره وإتباعه وتجسيده في الواقع.) في ضوء ما مر، فإن النشاط الإبداعي للإنسان يشترط لتواجده وديمومته ثلاث شروط أساسية هي على التوالي:

1 ـ الإستقرار.

2 ـ الامن.

3 ـ الحب.

إذ عندما لاتكون مستقرا في مكان ما وغير آمن على حياتك ولا تشعر بأي إحساس عاطفي، فبديهي أنك لاتملك أية رغبة لتجسيد وخلق عوالم تتجلى فيها رؤيتك الإنسانية للطبيعة والإنسان ذاته. وقد يكون بليخانوف محقا حين يقول(إذا لم يكن هنك طعام للمعدة، فليس هنك من طعام لا للروح ولا للقيم ولا للأخلاق.)، ذلك إن إشباع الحاجات العضوية والغرائزية على حد سواء للإنسان لهما أيضا نفس الإرتباط الجدلي السابق بشعور الانسان بالامن والطمأنينة، فالانسان المطارد، الجائع، الوحيد، المكبوت غرائزيا، سوف يكون أرضية خصبة للقلق والتردد والتمزق والضياع. وحين إستقر الإنسان رويدا رويدا عبر مراحل التأريخ المختلفة، بدأت مخيلته تتفتق عن تجسيد بدايات رؤياه الإنسانية للواقع الموضوعي الذي يحيط به"من طبيعة وكائنات حية بما فيها ذاته كإنسان"، تلك الرؤى التي إتخذت منحى يجنح نحو الإسطورة، كان طبيعيا أن تجد في مثل هكذا رؤيا لاتستند على أرضية واقعية قيم خرافية وفنطازيا تمتد أحيانا في آفاق أوسع من الحلم نفسه! وعليه، كان طبيعيا أن تجد المقاليد كلها في يد نماذج من قبيل: هرقل، شمشون، رستم، عنترة، كاوه‌، وكلهم كما ترى من شريحة الرجال. وكان طبيعي أن تجد بالمقابل ساحرات وبغايا وخائنات وأحابيل للشيطان تجسدت في نماذج نظير: جان دارك، بوبيا، جوكاست"والدة أوديب"، ماري إنطوانيت، وأخريات عديدات تراصفن على الشطآن الضحلة للرؤيا الذكورية السقيمة للرجل. إن التمعن في الأسس والمرتكزات التي قامت عليها الثقافة الإنسانية منذ فجر التأريخ، تبين بوضوح لا لبس فيه غلبة القيم الذكورية على نظرتها وتفسيرها وتعاملها مع الواقع، وإذا مكان هنك من ظهور"جانبي" يغلب عليه"التهميش"، فإنه كان بدواعي جعلها من ثمن نطاق أسباب ودوافع الصراع بين رجالات المجتمع الذكوري والتي كانت أجلى صورها في مبادئ الفروسية السائدة في القرون الوسطى والتي كانت تشدد على نصرة الانثى ومساعدتها إذا ما دعت الحاجة لذلك، مع ملاحظة الرؤيا الرومانسية للفرسان لمسألة"الحبيبة"الوفية المخلصة التي تؤثر طغيان الشيب في جسدها ولا تترك للحظة واحدة طيف وذكرى ذلك الحبيب الذي رأته صدفة ذات يوم غابر فصارت أسيرة شبكه. الثقافة الإنسانية التي رأت في الانثى مجرد كائن ضعيف مغلوب على أمره، كانت تؤكد دوما على تلك المبادئ التي تساهم في إبقائها ضمن دائرة الضعف والتهميش وبدلا من محاولة إعادة إستقراء لأسس ومرتكزات الثقافة الإنسانية والبحث في أسباب الأقصاء القسري للأنثى بعيدا عن أهم مجالات النفوذ والظهور في المجتمعات، بل أن تلك الحقب التأريخية التي تروي بروز أنثى ما في إمبراطورية ومملكة ما، فإن الامر كان للمحافظة على شرف الإمبراطور والملك من إنقراض سلالته الملكية"في حالات عدم إنجاب زوجته لولي عهده الذكر، وبسبب من العقم"، أي أن ذلك الظهور كان طارئا وعابرا وليس أصيلا ومستديما. لقد دأبت الثقافة الإنسانية على النظر للأنثى من نفس تلك الزاوية التي كانت تنظر من خلالها الى البقرة والدجاجة وقطعة أثاث أساسية في المنزل، وبرغم ذلك الإنقلاب النوعي في نظرة الثقافة الإنسانية للأنثى بعد عصر النهضة وتمتعها بالكثير من المزايا التي كانت في السابق محرومة منها، فإنها ماتزال في واقع الامر بعيدة عن الارضية الحقيقية التي تضمن لها وجودها وإعتبارها الإنساني في مقابل الرجل. إن تزايد حالات ممارسة العنف الاسري ضد المرأة وتفاقمها بوتائر تتصاعد حتى في المجتمعات الغربية ذاتها، حالة إنسانية غير صحية ومقلقة تدعو لدراستها ومتابعتها بعمق. وقد يكون من المعقول جدا أن نلقي بتوابع مثل هذه الحالات السلبية الى حقيقة أن المجتمع الإنساني مازال في قرارة عقله الباطن غير مقتنعا بتعاظم دور المرأة في المجتمع وسعيها الحثيث لمساواتها بالرجل. مثل هذا التصور قد يكون مبررا ومقنعا لو إلتفتنا الى الماضي القريب للثقافة الإنسانية وطبيعة نظرتها وتعاملها مع الانثى، إذ كانت تلك النظرة محاصرة دوما بأطر محددة لا تستطيع الفكك منها، وإن تمتع المرأة بوضعها الإيجابي لم يكن من جراء يقين فجائي هبط على فكر ووجدان الرجل بمظلوميتها، بقدر مكان نتيجة حتمية لتطور فجائي وسريع للمجتمعات الغربية أثر الإنعكاس الحاد والقوي للتطور التكنلوجي على شبكة العلاقات الإجتماعية وإعادة رص صفوفها مجددا. وفق ذلك، وبحسب نظرة العديد من علماء الاجتماع، فإن التطور التقني الذي حصل في مجالات الصناعة والزراعة مثلا، لم يوازيها تطور مماثل في المجال الإجتماعي، ولذلك فقد سعى المجتمع للحاق بركب تلك القفزة التقنية من خلال تنظيم شبكة علاقات إجتماعية"غير متجانسة" جديدة وكان طبيعي أن تكون فيها الكثير من الثغرات ولاسيما فيما يتعلق بالمرأة. النقطة المهمة والجديرة بالملاحظة هنا، هي أن الثقافة الإنسانية وإن إستطاعت أن ترفد الوجود الإنساني بتراث زاخر وثر لا يمكن الإستهانة بها والتقليل من قيمتها وأهميتها، غير أنها مع ذلك لم تستطع أن تجسد بصدق ونجاح الموقف الاخلاقي العادل من كلا الجنسين، إذ بقي التفوق الذكري واضحا. والحق أن الثقافة الإنسانية قد طغت عليها مفاهيم القسوة والعنف وبرأي العديد من المفكرين والباحثين لم تجسد قيم الحب والعاطفة بمعانيها الحقيقية مثلما جسدت القيم التي تعبر عن الجانب السلبي للإنسان. ويقينا أن سيادة قيم القسوة والعنف على الثقافة الإنسانية هو إنعكاس طبيعي وواقعي لغلبة "الثقافة الرجالية" إن صح التعبير على الثقافة الإنسانية، ذلك أن مبادئ ومثل"جوبيتر"قد كانت ولاتزال طاغية على"أفروديت". وكما أسلفنا في مواضيع سابقة لنا، فأن الحب كمفهوم نظري وتجسيد عملي قد إرتبط بالانثى، وبكلمة أخرى أن الحب في أساسه النظري والتطبيقي إبداع أنثوي، وبما أن الانثى قد ظلت طوال فترات طويلة جدا من التأريخ بعيدة عن مركز القرار والسلطة والفكر، فقد كان بديهيا طبقا لذلك أن لا تجد البعد العاطفي بأصالته الحقيقية مطروحا في الثقافة الانسانية. إن ثقافة مازالت"في سياقات مختلفة"تنظر للمرأة على أنها رمزا للشر وأنها كائن تابع وضعيف ومن الممكن التغرير به، ناهيك عن إعتبارها غير جديرة بقيادة الرجال لإعتبارات تتعلق جلها بتكوينها الفسلجي، هي ثقافة غير متكاملة وتحتاج لإعادة النظر بمختلف خطوطها الاساسية كي يمكن من خلال ذلك منحه محتوى إنساني شامل يضم في أغواره كلا الجنسين وليس"الخشن"لوحده! إن الدفاع عن ثقافة إنسانية تضم صوت وقيم ومثل ومبادئ المرأة هو دفاع عن الإنسانية الحقة لإنسان ودفعها الى ضفاف النقاء والصدق ورفع الشوائب والادران عنها.

 

  

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com