مقالات

الانثى والخوف .. الشفافية والإستلاب!

نزار جاف

nezarjaff@gmail.com

کان غريبا حين طلبت مني زوجتي أن أصحبها لزيارة الطبيبة الالمانية السيدة"هيلترود فون هايدن" المختصة بأمور النسائية والتوليد، وحين إستوحضت الامر من رفيقة حياتي، أبدت هي أيضا جهلها بالسبب، غير أنها کانت تثني دوما على هذه الطبيبة بعد کل زيارة وتغدق عليها أوصافا في غاية الرقة والوداعة. ومهما يکن من أمر، فقد إصطحبت زوجتي ذات صباح قارص البرودة ودلفنا الى عيادة الدکتورة السيدة فون هايدن. ووجدتها إمرأة قد تجاوزت العقد الخامس من عمرها بقليل، کانت ذات جمال مميز وتملک بقايا سحر أنثوي لا يزال فاعلا الى حد ما، لکن الذي کان يلفت إليها النظر أکثر من أي شئ آخر، هو ثقتها وإعتدادها الراسخين بنفسها، وقد شعرت بذلک من خلال مصافحتها التي شدت فيها على کفي بقوة. ومنذ الوهلة الاولى، قالت لي، قبل أن أبدأ بشرح السبب في دعوتي أياک لزيارتي، أود أن أن أبادرک بسؤال يحضرني الان وهو: ماذا ترى في المرأة؟ وکما ترون إنه سؤال بسيط، لکنه يصبح صعبا ومعقدا حين يکون في حضرة أنثى حقيقية، أنثى تعي بکل جوارحها مصائب وويلات مجتمع سيادة الرجل، وهنا کانت تسکب العبرات، وکعادة إکتسبتها من خبرتي في العمل المسرحي في معالجة المواقف الصعبة، أخذت نفسا عميقا وحاولت أن أقوم بعملية إسترخاء لکياني الذي کان قد شده الى بعضه البرد، وکأنها کانت تقرأ أفکاري وتسبر أغواري حين داهمتني بإبتسامة رقيقة وهي تقول: لا يا سيد جاف، أنت تأخذ إستعدادا للإجابة مما يفقد إجابتک نکهة البديهة التي تدل على فطرة الانسان! والحق إنها أصابت کبد الحقيقة ذلک إن أجمل الکلام وأصدقه وأقربه للقلب هو ذلک الذي يخرج من أعماق الانسان طبيعيا وبدون تکلف وسابق تصنع. السيدة فون هايدن قالت لي وهي تحاول أن تنهي حيرتي وتشبع فضولي، إن الذي يراه الرجل کإنسان في المرأة هو الطمأنينة والدعة والسلام. ولا أخفي عنکم أن إجابتها قد أعجبتني کثيرا ولما کنت دوما متسلحا بالقلم وقصاصات الورق"کعادة أي صحفي کلاسيکي"، فقد دونت رأيها هذا وشئ من ذلک الإحساس الذي أوردته آنفا. وهنا حاولت أن أستلم زمام المبادرة حين باغتتها قائلا: حسنا دکتورة، بماذا أستطيع أن أخدمک؟ وفجأة وجدتها وقد دعت لغة الإبتسامات جانبا وأشارت علي بالجلوس، وهي تقول: لقد أخبرتني السيدة جاف بأنکم کاتب وصحفي، أليس کذلک؟ فأشرت برأسي بعلامة الايجاب، عندئذ إستطردت وهي تقف في زاوية محددة وکأنها في صدد تحقيق نفساني خاص جدا: حسنا سيد جاف، وکما أخبرتني زوجتکم أنکم تکتبون في مجالي حقوق المرأة وحرية الإنسان! وکم أسقط في يديه لم أملک سوى الإيماء بالإيجاب. وهنا تنفست الصعداء وهي ترفع رأسها وتجعل بصرها شاخصا في سقف الغرفة، ثم رکزت عينيها في عيني وکأنها صقر يحدق في فريسته من السماء وأردفت برقة: لماذا أجد النساء المسلمات بشکل عام والعربيات بصورة خاصة خائفات وخجولات ومترددات ومبادرات بإظهار الالم مهما کان خفيفا؟! وهنا وبدافع من حسي المهني کصحفي إستفسرت منها السبب من وجهة نظرها بحکم خبرتها وإحتکاکها بالنساء من الصنفين اللذين أشارت لهما آنفا. قالت، أنا إن تکلمت فقد تزعجک تصوراتي ورؤيتي للأمر. وحين أظهرت لها إحترامي للرأي الاخر مهما کان نوعه وإتجاهه، قالت بهدوء وکأنها تجمع کل رجال الشرق في شخصي أنا بالذات: بقرة للحرث والحلب في النهار، ولحم ممدد لإفراغ شهوتکم في الليل!! کلام الدکتورة فون هايدن، کان صادقا ويضرب في الصميم، إنه کلام نابع من تحسس أنثى متحررة ذات شخصية قوية بأخرى مستعبدة ذات شخصية ثانوية وذيلية في أغلب الاحوال. إنه کلام يحاکي الوضع المأساوي للأنثى في ظل قيم سيادة الرجل التي سوف تبقى طاغية طالما بقت المعايير الفکرية ـ الإجتماعية هي السائدة والمتحکمة في زمام الامور. الخوف والتردد والمبادرة بإظهار الالم مهما کان خفيفا، يرجع في حد ذاته الى عامل الکبت القسري المستمر للأنثى في کل مراحل حياتها وجعلها نموذجا مستلب الإرادة والشخصية ومسيرة بفعل قيم جاهزة ومقننة قبل ولادتها! الانثى تخاف من مجابهة الذکر، تخاف من کشف مافوق رکبتيها وماتحت رقبتها، تخاف من الجلوس الى أي ذکر غير المسموح لها"وفق القيم والاعراف"، تخاف من إظهار حقيقة مشاعرها حيال أي شاب تتمناه وحتى تحبه في سرها، تخاف وتخاف وقائمة طويلة من خوف لا ينتهي للأنثى إلا في بلادنا الموبوئة بمرض الجمود ومصادرة العقل. وقد صادف في غمار عملي الصحفي أن إلتقيت بالعديد من الوجوه النسوية التي تعمل في مجالات تتعلق بالمرأة وحقوقها، وحين کنت أبادرها بأسئلة تتعلق بقضايا ترجع أسسها للنظام الفکري ـ الاجتماعي، سرعان ماکنت أجد الخوف والتردد على أشده في عيون محدثتي! لقد حولنا الانثى من حيث لا نشعر الى کائن ملغوم بألف سياج شائک يدمي وجودها الإعتباري ويشوه محتواها الإنساني. الانثى التي تجدها لحظات إنطلاقتها الحقيقية من أقفاص الوهم الذکورية، کم هي شفافة ورقيقة وصادقة في عکس إحساساتها ومشاعرها. إنها تحب بصدق وتختار بصدق وتخلص بصدق وتبني أسرتها بصدق، وتود أن يکون کل ماحولها مبني بلبلاب الصدق! وحب المرأة للصدق يأتي أساسا من کرهها العميق المتأصل في غورها للکذب، ذلک أن الواقع الفکري ـ الاجتماعي المحيط بها من کل الجهات، هو واقع مبني على کذب خاص موجه ضدها بالتحديد. إن کره الانثى للکذب يأتي أساسا من العلاقة الجدلية القوية مابين الخوف والکذب، ذلک أن کل وسط موبوء بالخوف أرضية خصبة للکذب، وحين يمارس الانسان الکذب ويصبح زاده اليومي الذي لابد منه لکي يعيش في وسطه الاجتماعي، عندئذ فقط تبدأ عملية مصادرة إنسانية الإنسان وهو أجلى صور الإستلاب الطوعي الذي تجسد ويتجسد دوما في أنثى بلداننا!

 

ملاحظة: کتبت هذا الموضوع بوحي من مقالة للزميل العزيز"شربل بعيني"، تحت عنوان"لماذا يغتصب الآباء بناتهم"والمنشورة في موقع (دروب).

 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com