مقالات

وطن الخيبات المستديمة

مصطفى المهاجر / برزبن - استراليا

شاعر وصحفي عراقي مقيم في استراليا

عضو اتحاد الكتاب العرب بدمشق

ترى كم من الوقت تحتاج نفسي المتعبة بذكرياتها لتنسى ما ظلَّ يعيش في خلجاتها ما ينيف على عشرين عاماً ....؟!

تُرى كم من الوقت يحتاج رأسي المثقل لهمومه لينسى وقع مطارق الذكرى عليه لما ينيف على عشرين عاماً ....؟!

هل يمكن لي أن أنسى ما ظلًّ لما ينيف على عشرين عاماً يدور في شراييني من آلام وهموم... تاركاً آثارة في كل خليةٍ من خلايا جسدي المنهك بذكرياته المريرة...؟!

أشعر أن محاولاتي لاجتراح معجزة النسيان.. مجرد إيغالٍ في أدغال الذكرى والتصاقٌ بها, مما يجعلها عصيةً على الذهاب الى وديانٍ تغيب فيها بصمات تلك السنوات الملونة بكدر الهموم ومتاعب المنافي... وإبحارٌ الى شواطىء لا مرسى فيها ولا فنارات ترشد السفن التائهة في لحتها الى أرض نجاةٍ.. أوساحل أمان..!! كلًّ هذا الوله المعتق في نفسي للخروج من نفق ليلٍِ تجاوز العشرين عاما ... الى غبشِ فجرٍ يمسح عن عينيَّ ظلماتٍ أدمنتها حياتي... اراه" مجرد سرابٍ بقيعةٍ يحسبه الطمأن ماءً..!!"

بعيداً عبر كلِّ هذه البحار والمحيطات.. هناك في أخر الأرض أبعد من" تلفات الدنيا وأبعد" أجدني واقفاً في الفراغ الهائل الذي لا تسنده ارض ولا تظله سماء ... أتملى صفحاتٍ من كتاب العمر الذي تناثرت أوراقه في زوايا المجهول... باحثاً عن صورتي بين ركام وطنٍ... أدمن الخيبة والفجيعة والنواح .. رافعاً عقيرتي بالعويل على ماضيُّ ... وعلى إخواني ... وأصدقائي .. الذين فقدتهم جميعاً هناك ... فيما كان يسمى وطن...!

وطن الخيبات المستديمة .. هذا ما أسمي وطني الذي كان((العراق)) بعد ما ينيف على عشرين عاماً من التيه في المنافي.. وما ينيف على عشرين عاماً من الغربة والضياع في ارض الله الواسعة التي امتدت من أقرب البلدان ... الى أبعدها .. الى آخر الأرض..., وبعد ما يزيد على خمس مجموعات شعرية مطبوعة وثلاث اخرى تنتظر ان ترى النور... نايضةً بحب الوطن الذي كان... ومعولةً على مآسيه وفجائعه ... وبعد آلاف الصفحات التي سودتها حزناً عليه ... وشوقاً إليه .... ودفاعاً عنه ... وبعد عشرات وربما مئات الأمسيات والندوات التي بكيت فيها احزانه وأبكيت مستمعيُّ حزنا عليه... وبعد عمرٍ من القهر والمعاناة والتشرد على أرصفة لا قلوب لها ... وفي متاهات لا دليل فيها ... وعبر بحارٍ مكتظةٍ بالحيتان والمخاطر .... ولا سواحل لها... بعد كل هذا العمر المفجوع بكل أحلامه المسروقة والمصادرة... أعود الى الوطن الدي كان, غريباً ... أدخله ب"فيزا" ... وأخرج منه بموافقة "دائرة إقامة الأجانب" ... أتجول في مدنه غريباً لا يعرفني احد.. ولا اعرف فيه احد.. فقد ذهبوا جميعا... أولئك الذين عشت معهم ... ولهم ... ذهبوا جميعاً الى المقابر الجماعية عبر السجون طويلة الأمد... وعبر أعواد المشانق .. وحقول الألغام... وتجارب الأسلحة الكيماوية...و لم يبق من الكثيرمنهم اي شيء .. لا رفات ... ولا حتى شواهد قبور .. لم يبق منهم سوى أسماء مدرجة في قوائم الموت!

وطن الخيبات الستديمة... ماذا ينفعني أن يحلُّ الطالباني رئيساً بدل صدام .. إذا كنت لا أجد بيتا يؤويني في ذلك الوطن؟! وماذا ينفعني أن تحلَّ عدة أحزاب يدل حزبٍ واحد..؟! إذا كانوا جميعاً لم يستطيعوا كشف مصير إخواني الضحايا ... وأرحامي الذين قضوا أجمل سنوات شبابهم في سجون الطغيان ثم لم يحصل أي منهم ممن خلفوه حتى على شاهدة قبر..؟!

و ماذا ينفعني ان يصبح عدد من اصدقاء المنفى مسؤولين جدداً.. إاذا كنت لا أستطيع رؤيتهم ولا حتى السلام عليهم..؟! ولم يعودوا يذكرون إخوة المعاناة والضياع في ليالي الغربة الطويلة..؟1

و ماذا ينفعني أن يستبدل مجلسٌ وطني.. بآخر مختلف عنه.. إذا كانت القوانين ذاتها .. لا تعيد حقاً مغتضباً... ولا هوية ضائعة ولا كرامةً مهدورة.... ولا تضمن لي عيشاً آمناً فيما كان يسمى((وطن))

و طن الخيبات المستديمة... كيف لي أن أقنع اولادي بحبك والحنين اليك...وهم الذين ولدوا في المنفى... وقرؤوك في قصائدي وحنيني ولهفتي إليك .. حينما يرونني بعيداً عنك .... مهملاً منك... ضائعا فيك..؟!

وطن الخبيات المستديمة... كيف أقنع نفسي بالعودة إلى أحضانك... وأنت لم تسألني عن شبابي الضائع وما ينيف على عشرين عاماً... غربة... وضياعاً... وقهراً.. فضلاً عما سبقها من معاناةٍ وسجن ومطاردات....؟! وكيف لك أن تعاتيني على جفوتي ولم ارمنك يد مودةٍ ممدودة... وبسمة ترحيب ... ودعوة حب...؟!

وطن الخيبات المستديمة.... لم تُعد لي شيئاً مما اغتصبه الطغيان من حقوقي فيك ... ولم تقدم لي أملاً بسقف وجدران تضم شيخوختي وحاضر أطفالي ومستقبلهم ... بل لم يعد لي أمل حتى ببضعة اشبار في أرضك ... قبراً يضم بقايا جسدي الذي أنهكه حبك..!!

أيها العراق الذي طالمل تغنيت به... وقلت مرة"ما أجمل الموت على أرض العراق" .. هل تعاتبني إذا سميتك " وطن الخيبات المستديمة" ... فما زلتَ بعيداً عني ... وما زلتَ لست لي... وما زلتُ أحبك... وأموتُ عليك...أيها العراق.؟!!

 

 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com