مقالات

الفنان شاكر حسن ال سعيد أحد رواد الحركة التشكيلية والمنظر لها

 حسين الهلالي

huseinalhilaly@yahoo.com

1925 هي سنة ميلاده في جنوب العراق وبالتحديد في مدينة (السماوة) وبين تأريخ ولادته واستقراره في بغداد سنة 1933 كانت طفولته تنتقل بين مدن الجنوب (قلعة سكر) (وبدرة) و(الحلة) وبعينين منفتحتين شاهد البؤس والفاقة بين سكان الجنوب بشكل عام وشاهد ذلك مباشرة مرتسمة على وجوه أقرانه في المدرسة وفي الشارع الذي يسكنه.

وسمع صرخات الاحتجاج المكبوتة في نداءات الباعة وما خلف هذه النداءات من قلق على الحصول لقوتهم اليومي ، وسمع غناء المغنين يتعالى ليبدد حجب الليل وسكونه ويستمر حتى الفجر ، يسأل عن كل هذه الظواهر فيجيبونه انهم يحيون حفلاً لزواج احد أبنائهم وصديقاً لهم وابن محلتهم لا يقنعه هذا الجواب ويفكر ان هناك شيئاً أعمق من ذلك ويندرج ضمن حالة احتجاجية على الواقع الذي يعيشونه ، ان ما سمعه يظل ضمن خزين ذاكرته ليضيفه الى كفاح هذا الشعب بشتى السبل ضد مضطهديه حتى الصمت وعدم الرضا على الإستلابات والممارسات التي مورست على الشعب العراقي من قبل الحكومات العميلة هو نوع من الإحتجاج الصامت ويعد حالة ايجابية تتفجر في حالات غضب مبررة قادمة.

هو ليس سياسياً ولا مفكراً سياسياً ولكن فنان مرهف الحس عاش في وسط الشعب وأصبح واحداً منه يتأثر لأي حالة عاطفية ، وحالة اضطهاد وخوف وخنق لحرية الآخرين ، هو حس السياسي المرهف وقلقه قلق الجياع والطبقات المسحوقة التي ينتسب اليها ويبقى ذلك الريفي عاش التراث ومحباً للحرية بلا حدود مرة التقيته في بغداد في بداية التسعينات وقي ذروة تألقه كفنان ومفكر ومنظر تشكيلي كبير كان اللقاء في أحد مقاهي بغداد قال لي أقرأ لي ابيات من الأبوذية فاني أتذكرها وأحس بصدقها وصدق أصحابها. قرأت له ما أختزنته ذاكرتي من الأبيات وآخر بيت عندما قرأته وأكملته بكى وقال لي :
(أرجوك لا تكمل بعد) ، والبيت :

 سريت اوماعرف لاوين بسراك - سيرك

 معلعل والدليل عليك بسراك - رك الدليل أي ضعف القلب

 يلاهي انظر الحالي وشوف بصراك – بصيرتك ، رأيك بي

أشفق من ابي وامي عليه - انت أحن من أبي وأمي علي

ان ذاكرة شاكر حسن ال سعيد التي حفظت الشيء الكثير من الموروث والتراث وتعاملت معه بصدق وحساسية مرهفة لهي جديرة بصاحبها ان يكون احد رواد الحركة التشكيلية العربية ومفكريها القلائل.

في طفولته كان متفوقاً على اقرانه في الرسم ، وكان يتلقى التشجيع والدعم من أبيه الذي كان يخرجه معه ويحدثه عن الرسم ويحثه ان يرسم بعض المشاهد في (المقهى) و(الخيول) و(التماثيل المتنوعة) ويقول في ذلك ((اعتقد ان والدي – رحمه الله – كان استاذي الفني الأول لأنه كان يصطحبني معه في بغداد للجلوس في مقاهي منطقة الصالحية في كرادة مريم وهي مقاهٍ محاطة بتمثال فيصل الأول ، وكان يطلب مني رسم التمثال ورسم تمثال الجنرال مود أيضاً وكان أيضاً يرسم لي مستقبلي بسليقته الشعبية تخطيطات للخيول ، وكان مولعاً باقتنائها فيما مضى)).

لقد تمسك بالتراث وأصر على أن يكون متجدداً ومتفرداً في خضم التيارات العالمية والحركات الفكرية التي تظهر بين الحين والآخر ، انه يستبق الزمن.ويطرح نفسه كمفكر يحمل عملية تزاوجية بين التصوف وهموم الفن التشكيلي بأحدث ما وصلت اليه المدارس والأساليب المتعددة ويصر ان يكون طليعياً في ذلك ، لذا وصف بأنه مفكراً عربياً سد كل الثغرات في الكتابة عن الفن التشكيلي.

اذن ما هو التغير الذي طرأ على حياته وتمسكه بالعملية التزاوجية بين التصوف والفن التشكيلي ؟

لقد كانت حياته اعتيادية وكأي شخص موهوب يريد أن يسلك طريق الفن لصقل موهبته ، في دار المعلمين العليا اثناء دراسته سنة 1947 بتعلم الرسم بالزيت على يد زميله فريد يوسف نانو وفي سنة 1949 ينتسب الى معهد الفنون الجميلة القسم المسائي رغم المصاعب التي يلقاها من جراء السفر بين بغداد وبعقوبة التي عين فيها مدرساً للرسم في مدارسها وكان يعود في الليل في القطار قاطعاً مسافة 45كيلو متر في هذا الجو الملبد بالغيوم ونحو الوعي الاجتماعي وتفجر الطاقات لشعب ينشد الحرية والاستقلال التام من نير الاستعمار الانكليزي يتحدث شاكر حسن ال سعيد فيقول ((كانت بغداد أشبه ببركان قابل للأنفجار كانت ((الوثبة)) ضد الأستعمار الانكليزي في 1948 قد تحدث وعيناً اجتماعي وشددت مطالبتنا بالحرية والحياة الجديدة. الى التزامنا الاجتماعي والانساني تملكتنا رغبات وقناعات بضرورة التغيير ، بضرورة الحداثة. هكذا جمعتني تلك السنوات ببدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي وجبر ابراهيم جبر وبلند الحيدري كنا نلتقي مساءً في (مقهى ياسين) بين السادسة والثامنة مساءً مع الموسيقي فريد الله وردي والشاعر الراحل حسين مردان والصحفي الراحل عبد الحميد الونداوي ونهاد التكرلي))

كانت ايام البحث والتقصي والعمل المتواصل للوقوف على مديات الحضارة السومرية والبابلية والاسلامية لبلاد ما بين النهرين. لقد ذهب جواد سليم لأستلهام الحضارة السومرية وبعدها تحول الى الحضارة الاسلامية. وقد رسم أجمل لوحاته في عام 1953،1955 التي تمخضت عن أكتشافه لدور كل من المربع والدائرة ومجزءاتهما في العمل الفني.

اما شاكر حسن يتوقف قليلاً في تلك السنوات أمام الفنين السومري والبابلي في لوحة (شخصيات) و(الفلاحون والقمر) ويطيل الوقوف أمام الروح الشعبية كما تتمثل خاصة في
(ألف ليلة وليلة) كانت محاولات الاسلوبية تجمع بين المؤثرات الحديثة في الفن الأوربي من تكعيبية ووحشية وتعبيرية والمؤثرات الحضارية العراقية والعربية ثم ما لبثت رسوماته في نهاية الخمسينات تنحاز بصورة حازمة الى النزعة التجريدية ،لكيما تتمثل خصوصاً في التجريدية اللاشكلية في عام 1956 عالم التحولات وعالم الصعود وعالم المعرفة وعالم التصوف هذا الفتى الريفي الذي يحمل كل خصائص أهل الجنوب وكل معتقداتهم كان عليه أن يسلك طريقاً واحداً من أثنين ، الأول الولوج في داخل الحضارة الأوربية والغوص فيها ومعرفة خفاياها وبالتالي إدراكها وتبينها كما فعل البعض والثاني هو العودة الى تراث بلاده والالتزام به والسير باتجاه التطور ضمن هذه الحداثة ، هذا اذا كان الموضوع ثقافياً وتشكيلياً ولكن لا هذا ولا ذاك ، لقد كان الموضوع سلوكياً لا ثقافياً ولا تشكيلياً لذلك كان واضحاً عندما اختار الطمأنينة والسلام والهدوء في التدين وذهب بعيداً عن الفكر الوجودي السائد في فرنسا آنذاك ويقول في تلك الفترة ((في باريس اتضح لي ان الفكر الوجودي. وقد كان الفكر السائد فيها بعد الحرب العالمية الثانية –عاجز عن تبرير نفسه – لم أستطع تحمل مسؤولية اختيار مواقف الانسانية –وهو ما تقول به الوجودية حيث وجدت ان قوى خارجية هي خارجة عن ارادتي تتحكم في مصيري بشكل مذهل وغير منطقي)) لم يؤثر هذا التصوف ومعاناته الروحية على فنه ، فقد قدم لنا فناً سلك فيه منحاً آخر وهو اختزال الأشكال الى دلالات محدودة المقاصد (انه الفن الصوفي) كما يسميه الفنان نفسه ، وقد اكد على الحرف في لوحاته ، لقد نظّر الى ذلك في جماعة البعد الواحد وانسجم هذا التوجه مع جماعة بغداد للفن الحديث ، وكانت دراسته في باريس عن الحرف كأداة للزخرفة وبعد عودته من باريس الى بغداد أصبح الحرف كأداة تعبيرية لديه ويقول في البيان التأملي وهذا جزء من فقراته :-

((على ان جمالية التأمل تعتمد على اساسين الأساس الأول هو أن العمل الفني التأملي
(وصف للعالم وإيضاح للعلاقة ما بين الذات (أي الفنان) والموضوع أي العمل الفني) وهو وصف لا يتم دون أن يتخذ له معنى (معراج) أي حركة صعود (من الذاتي نحو المحلي) ومن المحلي نحو العالمي فالكوني كما يتخذ له معنىً (تحول عكسي وسقوط : من الإنساني نحو الحيواني فالنباتي فالجرثومي. وما بين كل من المعراج والسقوط …ما بين حركة صعود وحركة هبوط سيتم الوصف غير المنحاز للعالم الخارجي عبر العالم الباطني سيتمكن الفنان من كشف ذلك من خلال مقاماته –الحالية) ومعراجه (الذاتي الكوني) الروحي وضمن معراجه الحجري وذلك بعد مسيرته (المادية –الإنسانية).

أما الأساس الثاني فهو ان العمل الفني التأملي ابداع شخصي وأفكار يحول دون مليء السطح التصويري بالعلاقات انه يعترف مقدماً بكمال اية لوحة فنية دون إنجاز وعلى ذلك فالتدخل في خصوصياتها بواسطة الفعل سيظهر بصورة ديمومية وبدلالة المنهج المقارن عودة الفنان
و (تعرفه) على اللا - شخصية يتم ضمن مسار افقي يبدأ من ذات الفنان نحو الآخرين (من كونه شخصاً معيناً الى كونه عضواً في مجتمع).

شاكر حسن ال سعيد ملك ادواته ووصل الى درجة اليقين في منجزه واستخدم حريته دون ضغوط من الآخرين ، قدم لنا هذا المنجز التأملي والخطاب التشكيلي الذي يتجسد فيه الإدراك الكامل لتحولات المرحلة في هذا القرن واعطاء الصورة الواضحة لجميع التيارات الفنية والجماعات الفنية التي قدمت عطائها ضمن مرحلة القرن الواحد والعشرين وأصدر كتاباً خاصاً بذلك (البيانات الفنية في العراق) التي تنتمي اليها هذه الجماعات.

ويقول هوندر* - اروندل في كتابه حرية الفن (ان على الفنان واجباً نحو الحقيقة كما يراها حتى اذا تناقض ذلك مع الحقيقة كما يراها حزب سياسي وحكومة وحتى اصدقاؤه ، لا أعني بذلك ان الفنان دائماً على صواب فله ضعف البشر فيتجاوز ويتعصب ، ولكنه مالم يخلص لرؤيته الخاصة فانه يفقد الإستقامة الفنية ويصبح غير جدير بأن يقال عنه انه فنان)

وسأله فاروق يوسف في مقدمة وحوار* :

هل تشعر بغبطة المحترفين ام بقلق المخترعين ؟

- الغبطة المطلقة التي يستقر فيها البعض احتكاماً لمستوى المهارة التقنية اشبه ما تكون بمعنى الضحك من فرط البكاء ، في اعتقادي ان مهمتي الأساسية في الفن هي نشدان الإبداع وحرية الانتقال في جماليته الخاصة أي في حدود النظام التأليفي الذي اعمل على توسيع آفاقه.

- هل شعرت في يوم ما بأنك أخطأت حين اخترت الرسم ؟

- لم أقدم على اختياري الرسم للتوجيه نحو اكتشاف الحقيقة في الوجود (ربما رسمت بعد الموت) أي في العالم الآخر وذلك عبر امتداد وجودي الروحي.

- هل انت مفكر بزي رسام أم رسام بزي مفكر ؟

- دونما انتقائية وبعيداً عن البهرجة فان اشكالاتي في مجال الفن هي اشكالات ثقافية وانسانية صرفة فكل ما اصبو اليه في مسيرتي هو ان افلح في استثمار قابلياتي النظرية اولاً ثم في ان احقق ثانياً قسطي من الإبداع في رحلتي بين الطبيعة والثقافة وحتى في ابحث عن نفس العلاقة وفق منهج تراجعي ، أي ما بين الثقافة والطبيعة. هل انا مفكر ورسام مفكر ؟ لا يهمني مثل هذا التحديد بالذات ، لان ما يهمني هو ان ابدو دونما (رأي) يحدد هويتي.

لقد عمل في ضوء شموع قليلة واراد ان ينير الطريق لغدٍ افضل في دنيا مضطربة مدمرة ، ظناً منه ان الجهد الذي بذله سوف يصبح مثل اعلى للخيرين ، اراد ان يقدم لنا منجزه الخطابي التشكيلي – فن جديد ومجيد يحمل هوية الأمة وتراثها ، ويكون مبعث لسعادة الإنسان هذا حلمه الذي يراوده ، فلنوقد الشموع على قبره كونه رمزاً من رموزنا الوطنية ، وليرحمه الله برحمته.

 

الإشارات

* - من مقدمة للدكتور شربل داغر لكتاب شاكر حسن ال سعيد (انا النقطة فوق فاء الحرف)

* - نفس المصدر المذكور

* - كتاب حرية الفن – هوندار – اروندل

* - فاروق يوسف في مقدمة وحوار – مجلة الأقلام العدد الثامن – آب 1990

 

المصادر

1- البيانات الفنية في العراق – شاكر حسن ال سعيد

2- فصول من تأريخ الحركة التشكيلية في العراق الجزء الثاني شاكر حسن ال سعيد

3- انا النقطة فوق فاء الحرف – شاكر حسن ال سعيد

4- كتاب حرية الفن – هوندار - اروندل – ترجمة حسن الطاهر زروق

5- الفن التشكيلي المعاصر في العراق – شوكت الربيعي.

 

 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com