مقالات

خزانة بابل

 

علاء شاكر دوحي

 لقد كان واحداً من أبرز نتائج الخطة التي رسمها علماء الشيعة لمواجهة الغزو المغولي أن المغول لم يتمكنوا من القضاء على العلم في بغداد . فقد كانت بغداد أعظم مراكز العلم في العالم الإسلامي على الإطلاق، ولو كان التخريب الذي أصاب سائر مرافق الحياة في بغداد كان يصيب مراكز العلم في بغداد لعظمت محنة المسلمين في هذه الكارثة أضعافا " مضاعفة. ولكن الذي حدث أن الحلة استطاعت أن تكسب أمان السلطان المغولي، واستطاع علماء الشيعة أن ينقلوا ما تبقى من مراكز العلم والكتب والعلماء في بغداد إلى الحلة، وكان للمحقق نصير الدين الطوسي - رحمه الله - الذي احتبسه السلطان لنفسه والذي كان يحظى باحترام كبير من قبل هولاكو الدور الكبير في إنقاذ ما أمكن إنقاذه من العلماء والمكتبات في بغداد وقد أصبحت الحلة منذ هذا التاريخ مركزا ًعلميا  من كبريات مراكز العلم في العالم الإسلامي، وازدهرت هذه المدينة بالفقهاء والمحدثين والمفسرين والحكماء والأدباء والشعراء وبالمدارس العلمية، وحفلت هذه المدارس بأعداد كبيرة من شباب الطلبة الوافدين إلى الحلة من الشام وإيران والمدن العراقية والجزيرة . وقد بنى السيد فخار بن معد الموسوي مجمعا " سكنيا " لطلبة العلوم الإسلامية وكان يحضر درس المحقق الحلي كما يقول السيد الصدر أربعمائة من المجتهدين الجهابذة  وهو أمر قلما يحصل في تاريخ المدارس والدروس، فقلما يتفق أن يجتمع أربعمائة مجتهد في منطقة واحدة فضلا من أن يجتمعوا في درس واحد . وعن هذه الفترة يقول السيد محمد صادق بحر العلوم : وقد تلمذ عليه - المحقق - جماعة كبيرة من العلماء والفقهاء المبرزين، وكانت الحركة العلمية في عصره بلغت شأوا " عظيما " حتى صارت الحلة من المراكز العلمية في البلاد الاسلامية . وهذه الفترة التي نتحدث عنها الفترة هي التي تعقبت كارثة سقوط بغداد مباشرة، وكان المحقق الحلى - رحمه الله - أبرز رجال هذه الفترة في الفقاهة والزعامة والمرجعية . ويقول السيد الصدر أيضا " عن الحلة في نفس العصر عن تلامذة العلامة الحلي - رحمه الله - : وخرج عن عالي مجلس تدريسه خمسمائة مجتهد ويقول الدكتور البصير عن الحلة في هذا العصر : وكانت الحلة مركز نهضة ثقافية عظيمة بزغت شمسها في أوائل القرن العاشر، حيث انتقلت الثقافة الإسلامية إلى كربلاء ثم ما لبثت أن انتقلت إلى النجف الذي لم يزل مركزا " عظيما " من مراكز الثقافة العربية الاسلامية . ويقول الشيخ عبد المولى الطريحي عن نفس الفترة : وقد نبغ في الحلة فريق عظيم من العلماء والفقهاء والاطباء والفلاسفة والادباء والشعراء مالا يحصون عدا " لكثرتهم، فطبقت شهرتهم الذائعة الافاق، وخدموا العلوم الاسلامية والفنون والاداب العربية خدمات جلى تذكر فيشكرون عليها . وقد ذكر الخوانساري نقلاً عن الشيخ ميرزا عبد الله الاصفهاني الافندي في كتابه "رياض العلماء" ما مضمونه: أنه عاش في الحلة  خمسمائة مجتهد في قرن واحد فضلا عن سائر القرون . وهذا الإحصاء دليل من الأدلة الواضحة الناصعة التي تثبت لنا رواج سوق العلم والأدب والثقافة الاسلامية في هذه المدينة التاريخية) ولا نريد أن نطيل الحديث في مدرسة الحلة فإن هذه المدرسة جاءت بديلا عن مدرسة بغداد وخليفة لها وحلت محلها، واستطاعت ان تجتذب ما تناثر من بغداد من العلم والعلماء بعد كارثة سقوط بغداد . وما أسرع ما نمت هذه المدرسة وازدهرت وحف إليها العلماء وطلبة العلوم الإسلامية . وكان المحقق الحلي - رحمه الله - من أبرز رجال هذه المرحلة في مدرسة الحلة فقهاً  وتدريساً وزعامة . وقد كان درس المحقق هو الدرس الرئيسي الأول في هذه المدرسة، واكثر فقهاء الحلة يعدون من تلامذته أو من تلامذة تلامذته، وكانت دروسه تحفل بالعلماء والفقهاء والمجتهدين كما أشرنا قبل قليل، هذا إلى جانب الزعامة الدينية التي كان ينهض بها المحقق في هذه الفترة، ولم يكن ينافسه فيها أحد من معاصريه كما يظهر . 

ولا يخفي على من ألقى السمع وهو شهيد أن إقدام هذا الشيخ التقي على مثل هذه المحاولة ليس هو مساومة للفاتح الأجنبي ومساعدة على تسلطي‍ الكافر على المؤمن كما اعتقده بعض العامة ممن لا تدبر له في الأمور . فان هذا العالم الجليل الورع يعرف أن الكافر لا سبيل له على المؤمن لكن لما شاهد أن الخليفة العباسي آنذاك منهمك في لهوه ولعبه لم يفكر في مصير نفسه فضلا عن غيره وعدم وجود القدرة الكافية لمواجهة الغزو المغولي وكان يعلم أن المغول التتار إذا دخلوا بلدة ماذا يصنعون بها من الدمار والهلاك والسبي والتعدي على الناموس . ولذا صمم هو ومن معه كخطوة أولى الحفاظ على المشهدين الشريفين والحلة وأعمالها فذهب الشيخ سديد الدين إلى هولاكو ونجح هذا النجاح الباهر في إتمام هذه الخطوة الأولى والحصول على الأمان لاهل هذه المناطق . وكخطوة ثانية ألف السيد مجد الدين محمد بن طاووس كتاب البشارة وأهداه إلى هولاكو فأنتجت هذه الخطوة إن رد هولاكو شؤون النقابة في البلاد الفراتية إلى السيد ابن طاووس وأمر هولاكو بسلامة المشهدين والحلة . وكخطوة ثالثة - وهي مرحلة الاصلاح - حاولوا إصلاح هذا المعتدي وردعه عن ارتكاب الجرائم وهدايته هو ومن معه إلى الصراط المستقيم من باب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وأثمرت هذه الخطوة ببركة النصير الطوسي إن أسلم الملك هولاكو وكثير من المغول واستطاع النصير الحفاظ على ما تبقى من التراث بعد هلاك جله وصار النصير الطوسي وزير هذا السلطان وقام بمهام كبيرة في خدمة العلم والعلماء والحفاظ على النفوس والدماء . ومع كل هذه الخدمات التي قام بها علماء الشيعة لاجل الحفاظ على الدين والناموس ومع كل هذا الإحسان الذي قدموه للإنسانية نرى((( بعض من يدعي الفضل ))) ويرد هذا الإحسان بالإساءة فيقدح بالنصير ومن معه بأنهم ساعدوا هولاكو في الاعتداء وساوموه ! ! ! وأمه هي : بنت العالم الفقيه الشيخ أبي يحيى الحسن بن الشيخ أبي زكريا يحيى ابن الحسن بن سعيد الهذلي الحلي وهي أيضا أخت الشيخ أبي القاسم جعفر المحقق الحلي فمن المعلوم أن امرأة كهذه تربت ونشأت في وسط جو مملوء بالتقوى وبين علماء أفذاذ لا تكون إلا امرأة  صالحة تقية حقيق لها أن تنجب مثل العلامة الحلي . وجده لابيه هو : زين الدين علي بن المطهر الحلي . وجد أمه هو : أبو زكريا يحيى بن الحسن بن سعيد الحلي .وقد وصف هذا العالم الجليل على انه ألسن أهل زمانه وأقومهم بالحجة وأسرعهم استحضارا ومن اهل الفضل والنبالة والعلم والفقه والجلالة والفصاحة والشعر والأدب  والإنشاء ومما تقدم لا يوجد أدنى شك في تواطؤ او محاولة( تطبيع) قام بها علمائنا الاجلاء مع الأجنبي او الغازي او المعتدي لمعرفتهم التامة ان مثل هكذا موضوع يسيء الى الاسلام والى مكانتهم بين المسلمين ومحلهم من التاريخ .

  --------------------------------------------------------

المصادر

رياض المسائل (ط.ج) - السيد علي الطباطبائي ج 2  

أعلام العرب : 2 / 98

لؤلؤة البحرين : ص 227

تأسيس الشيعة ص 270

رياض العلماء للأصفهاني ألا فندي

كشف اليقين

تحفة العالم

بحار الأنوار

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@brob.org